إن الحديث عن القاضي عياض حديث عن نموذج العالم المغربي الذي جمع بين سعة العلم والمشاركة في الفنون المختلفة، والالتزام بثوابت أمته من عقيدة أشعرية وفقه مالكي وتصوف سني وإمارة المومنين، والانخراط الفعال في الإصلاح وفق رؤية علمية رصينة مؤصلة وفقه سديد لحال مجتمعه، كما يظهر ذلك جليا من مصنفاته ولاسيما كتاب الشفا. لذلك أضحى القاضي اليحصبي السبتي – كما غيره من علماء الغرب الإسلامي - موردا رئيسا ومصدرا أساسا لعلماء الدنيا شرقا وغربا في بناء صروح تواليفهم العلمية.
وإن المتصفح للتراث الحديثي يجد الحضور العلمي المكثف لعلماء الغرب الإسلامي، ولعل أوضح مثال على ذلك ما تضمنه فتح الباري للحافظ ابن حجر من نقول عن علماء الغرب الإسلامي كابن بطال، والمهلب، وابن عبد البر، وغيرهم. وهو ما يؤكد أن الاختيارات التي كان يجنح إليها العلماء المغاربة اختيارات سديدة، الشيء الذي حمل المشارقة على أن يهتبلوها في مؤلفاتهم، لما ألفوا فيها من خصائص فريدة، وسمات مميزة.
ويمكن التمثيل لهذه الخصائص التي اختص بها الدرس الحديثي المغربي، كما يبدو من تراث القاضي عياض، بسمات ثلاثة نخالها منتخبة من جملة من السمات، التي لا يسمح الحيز الزمني لهذه المحاضرة بذكر جميعها.
السمة الأولى: التكامل المعرفي
يظهر التكامل المعرفي للدرس الحديثي عند القاضي عياض من خلال تنوع المعارف والفنون التي أعملها في سبيل جني فوائد النصوص الحديثية، حيث نجده يتحدث في درسه عن الأدب، والعقيدة، والفقه، والحديث، والتاريخ ...، من أجل أن يخلص إلى فكرة جامعة، ومقاربة كلية للموضوع.
ومن مظاهر هذا التكامل جمعه بين الرواية والدراية، فلم يقتصر الدرس الحديثي المغربي على الرواية فقط، وإنما تكاملت فيه الرواية والدراية، إذ لم يكن الحكم النقدي العام عند القاضي عياض ينفصل عن النظرين معا، النظر فيما يتعلق بالسند، والنظر فيما يتعلق بالمتن، وهو الذي دفعه إلى العمل ببعض الأحاديث الضعيفة التي أنكرها الكثير من الناس، ولعل من يقرأ كتاب الشفا يقف على هذا بشكل واضح جلي، فقد انتقد بعضهم القاضي في إيراده الأحاديث الضعيفة لعدم فهمهم لهذا المنهج، وقد رد الشيخ الكتاني تهافت هذه الأقوال، وبين أن هذا النقد لا يستند إلى صحيح فهم ولا قوي دليل.
فضعف الحديث ليس بالضرورة مرتبطا بوجود راو ضعيف في السند بدليل أن البخاري خرج لبعض الرواة الذين تكلم فيهم. فالحكم على الحديث يستلزم الجمع بين الرواية والدراية.
وقد كان القاضي عياض يستحضر أهمية هذا البعد المرتبط بالعمل على الحديث في الحكم النقدي، لذلك أعمل أحاديث ضعيفة في بعض الأحيان، ولم يعمل أحاديث صحيحة في أحايين أخرى، كما كان يستحضر المعنى للحكم على الحديث، فعندما نتحدث عن مبحث دقيق من مباحث الحديث، وهو مصطلح الحسن، نجد أن ما يغلب في تعريفه، أنه ما رواه عدل خف ضبطه من غير شذوذ ولا علة، ولكن القاضي عياض لا ينظر إلى الحسن باعتبار الاصطلاح فحسب، وإنما ينظر إليه أيضا باعتبار معناه.
السمة الثانية: التحقيق والتدقيق والتقويم
انبنى عمل المغاربة في الحديث على التدقيق والتحقيق ومقابلة النصوص والتحري التام والتثبت الشديد، وهذا حاضر في مصنفات القاضي عياض. ومن طالع كتاب مشارق الأنوار، يلحظ هذا الملحظ، حيث لم يكن يقتصر على إيراد الروايات المختلفة فقط، بل كان يتتبع كذلك الألفاظ ويسعى إلى حشد كل ما ورد في الموضوع للوقوف على النص كما ورد في أصله، ولذلك عمل على تقويم وتصحيح ما صدر عن غيره من أوهام وأخطاء.
ومن تجليات تدقيقه صنيعه في مسألة تخريج الأحاديث، فلم يكن القاضي عياض يعتمد على التخريج الجملي، الذي يعتمد على إيراد الكتاب، والباب، ورقم الحديث فقط، بل كان يورد بالإضافة لما ذكر الروايات المختلفة للحديث، لأنها تختلف تقديما وتأخيرا، وزيادة وحذفا... باختلاف الرواة وتباين زمن سماعاتهم.
ومن تدقيقه كذلك، أنه عمل على تصحيح أوهام العلماء السابقين، واستدراك ما فاتهم، ليجبر به ما انتاب أعمالهم ومصنفاتهم من ثغرات وفجوات، ومن ذلك ما يتعلق بمصطلح المقلوب باعتباره شكلا من أشكال مخالفة الثقات، فالكثير من المحدثين يمثلون للقلب بحديث مسلم " حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله"، وجلهم يسند هذا القلب للإمام مسلم، وقد صحح القاضي عياض هذا الوهم، وذكر أن القلب لم يقع من الإمام مسلم، وإنما وقع من ناسخ صحيح مسلم.
ومن تدقيقه أيضا تصحيحه للوهم الذي وقع للكثير من الدارسين، أن الإمام مسلما لم يبوب صحيحه كالبخاري، ولذلك قام الإمام النووي بذلك وفق ما نقرأه في كتب أهل الشأن. وقد صحح القاضي عياض هذا الوهم في شرحه لصحيح مسلم، في كتابه إكمال المعلم بفوائد مسلم، في باب التطيب من الجنابة حيث قال فيه: "وبذلك بطل من ادعى أن مسلما لم يبوب كتابه".
السمة الثالثة: الاجتهاد والإبداع
مما يميز علماء المغرب أنهم كانوا يضيفون الجديد المفيد إلى أعمال من كان قبلهم، على اعتبار أن المطلوب هو الجدة، كما ذكر الأبي فيما نقله عن شيخه ابن عرفة، في شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، أنه ذكر أن قوله صلى الله عليه وسلم "أو علم ينتفع به": ليس كل علم ينتفع به، وإنما العلم الذي ينتفع به هو العلم الذي فيه جدة، أما مجرد التكرير فهو تضييع للكاغد.
وسمة التجديد هذه، جلية في الكتب المغربية في السيرة النبوية، حيث تلقى المغاربة كتب الرواد، فنظروا فيها وأبدعوا وأجادوا، وأعادوا النظر فيها شرحا واستدراكا ...ليصدروها من جديد، حيث صارت من عيون المصنفات في الموضوع.
وهذا التجديد يظهر عند القاضي عياض في مختلف تواليفه ككتاب الإلماع، حيث أبدع في مراتب السماع، وصور التحمل، واجتهد، إذ لم يعتبر الإجازة في المرتبة الثالثة، كما هو عند الجمهور، وإنما جعلها في المرتبة الخامسة، وكان عنده تعبير خاص به في صورة الوجادة، وهو الخط، وهذا يدل على عميق نظر القاضي وتمكنه من علوم الرواية والدراية.
وبعد:
فهذه بعض السمات التي ميزت الدرس الحديثي المغربي، وجعلت له خصوصية فريدة اختص بها عن غيره، والأمل أن تتضافر جهود الباحثين في الاشتغال على المدرسة الحديثية المغربية لتعرف مناهجها وأعلامها، واستلهام عطاءاتها، خدمة للسنة النبوية خاصة، وعلوم الشريعة عامة.
Commentaires