مهد الأستاذ محمد بنكيران لدرسه الموسوم بــ:"مستويات النقد في الحديث" ببيان حاجة الإنسان إلى المستندات الإخبارية في حياته اليومية، كالشهادات في القضاء، والأحكام وغيرها، مع تفاوت هذه المستندات من حيث الأهمية.
وفي القرآن الكريم ذكر لما يصادف الإنسان في كثير من الأحيان من الأخبار التي يجد نفسه مدفوعا إلى تصديقها والقيام بتصرفات محددة بناء على ذلكم التصديق، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يسعى قَالَ يَا موسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[1]. فموسى عليه السلام انطلق ليخرج تصديقا لخبر هذا الرجل.
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقته لا يخرج عن كونه "مستندا إخباريا"، لذلك اهتم المحدثون والأصوليون بوضع قوانين وقواعد يخضع لها لبيان درجة صحته من عدمها.
أقسام المستندات الإخبارية:
المستندات الإخبارية تنقسم في الجملة من حيث صحتها وعدمها إلى قسمين: قسم تطمئن النفس إلى صحته. وقسم لا تطمئن النفس إلى صحته.
القسم الأول: ما تطمئن النفس إلى صحته، وينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الخبر المقطوع بصحته: ويدخل فيه خبر الأنبياء بالوحي الذي يوحى إليهم، ودليل صحته ما أيدهم به الله من المعجزات والخوارق التي هي علامات صدقهم، ومثاله تصديق أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء، فقال كلمته المعروفة: "إن كان قال فقد صدق"[2].
ويلحق بهذا النوع الخبر المتواتر لاستحالة تواطؤ نقلته في العادة على الكذب بالنظر لكثرتهم واستحالة اتفاقهم على الكذب أو حصوله منهم اتفاقا من قصد.
النوع الثاني: الخبر الذي ترجحت صحته: لكون جانب الصدق فيه أرجح من جانب الكذب، وهو الخبر غير المتواتر الذي يترجح في ناقله صدق خبره بالقرائن. ومثاله الإشهاد على الزنا الذي يتطلب أربعة شهود عدول صيانة لأعراض الناس، فجانب صدقهم راجح على الكذب.
القسم الثاني: ما لا تطمئن النفس إلى صحته:
وهو الذي يترجح فيه جانب عدم الصدق لقرائن دالة على عدم صدق المخبر في خبره. كأن يكون المخبر معروفا بالكذب مثلا ويتفرد بنقل الخبر.
مستويات النقد في الحديث:
والحديث من حيث هو مستند إخباري يحتاج إلى إعمال المنهج النقدي الحصيف الموصل إلى الغاية من الاشتغال به، وهي العمل به والاستنباط منه.
ويمكن إجمال مستويات هذا النقد في أربعة مستويات:
المستوى الأول: النقد الإسنادي: وذلك بالنظر في الإسناد والرواة الذين نقلوا لنا الحديث، ودرجة ثقتهم، بغاية التمييز بين من هو صالح لنقل الحديث من غيره.
ويشمل هذا المستوى التركيز على الرواة من حيث العدالة والديانة، ومن حيث المعرفة والضبط، وهو ما شكل علما دقيقا هو علم الجرح والتعديل، موضوعه الأساس النظر في رجال الحديث وإجراء الأحكام النقدية عليهم.
المستوى الثاني: النقد اللغوي والفني: وهو النقد الذي ينصب على متن الحديث والنظر في مدى موافقته للمعهود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصيح وأسلوبه البليغ، فإذا وجد حديث يتضمن معنى ركيكا سمجا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يعهده العلماء من كلامه صلى الله عليه وسلم حكم برده وعدم قبوله، وذلك كالحديث الموضوع: "الديك صديقي وصديق صديقي". فهذه العبارة لا يمكن تصور صدورها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت مهمته في الأمة بناءها وتكميلها بأرقى المعاني والأساليب.
المستوى الثالث: مستوى النقد الفقهي: وهو النقد المتصل بقاعدة أنه ليس كل ماصح وجب العمل به مطلقا، فالأحاديث –كما هو معلوم- فيها المنسوخ والمقيد والمخصص والمؤول.. فتحتاج بسبب ذلك إلى نظر الفقيه ونقده لتمييز ما يجب العمل به منها وما لا يجب.
المستوى الرابع: النقد الأصولي: والكلام في هذا المستوى متعلق بحجية السنة، وعلاقتها بالقرآن الكريم مثلا، وكيفية التعامل مع ما يبدو متعارضا منها مع آيات القرآن الكريم، أو مع المتواتر أو مع القواعد المقررة والمقطوع بها، أو مع عمل أهل المدينة وما إلى ذلك من الأمور المنصوص عليها في مواضعها، وذلك ببيان الأصول المحتكم إليها في هذا الشأن.
والنقد في هذه المستويات ليس مبناه على التشهي أو الهوى وإنما هو نقد علمي منهجي مبني على قواعد وضوابط موضوعية غاية في الدقة والهدف الذي يتحدد أساسا في الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي إطار أن السنة النبوية وحي من الله تعالى كالقرآن الكريم سواء بسواء، بما يجعلها مخولة لتشريع كثير من الأحكام المستقلة التي لم يتطرق لها القرآن الكريم.
وختم الأستاذ درسه بمثال يبرز تلاحم هذه المستويات الأربع في النقد: أي الإسنادي والفني والفقهي والأصولي، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِم.[3]
فهذا الحديث وإن أخرجه البخاري رحمه الله، فإن أئمة الفقه المجتهدين لم يعملوا به منهم الإمام مالك والشافعي والليث بن سعد وغيرهم. ولم يقولوا بجواز نكاح المحرم، لكونه معارَضا بأحاديث أخرى منها حديث عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح ولا يخطب"[4].
ثم إن هناك أحاديث تثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا، وهو حديث يزيد بن الأصم الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه[5].
وهذا يدل على أن الحديث النبوي الشريف خضع لمعايير دقيقة جدا في النقد سواء على مستوى القبول والرد، أو على مستوى الفهم والنظر، أو على مستوى التعامل والاستنباط.
الأستاذ محمد بنكيران
الحواشي:
[1]- سورة القصص، الآيتان: 20 -21
[2]- معاني القرآن لأبي جعفر النحاس سورة المائدة، وقانون التأويل لأبي بكر ابن العربي: ذكر شرح الصدور
[3]- صحيح البخاري: كتاب جزاء الصيد، باب تزويج المحرم.
[4]- صحيح؛ رواه مالك في الموطإ: كتاب الحج، باب نكاح المحرم، ورواه مسلم في صحيحه: كتاب النكاح باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبه.
[5]- صحيح ابن حبان: كتاب النكاح، باب حرمة المناكحة، ذكر البيان بأن تزوج المصطفى صلى الله عليه وسلم ميمونة كان وهو حلال لا حرام.
Commentaires