ألقى الأستاذ محمد بنكيران درسا في موضوع "النظر في السند عند المحدثين" وقد بين في بدايته أن نقد المحدثين للسنة النبوية كان مؤسَّسا على ركنين كبيرين، أولهما: العلمية والموضوعية، والآخر: العاطفة والغيرة القوية، والدليل على ذلك يطالعنا من أحوال أئمة الحديث ونقاده الذين كانوا يتمثلون الأمرين معا.
مثال
ومن أمثلته ما رواه مصعب بن عبد الله الزبيري عن الإمام مالك حيث قال: "كان مالك رحمه الله إذا ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: "لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث حتى يبكي ويبكي حتى نرحمه، وكنا نأتي جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وكان لا يحدث إلا على طهارة، وكنت أتردد عليه مرارا، فكان لا تراه إلا على واحدة من ثلاث خصال؛ إما مصليا وإما صامتا وإما قارئا للقرآن، وكان من العلماء العباد الذين يخشون الله تعالى. وذكر عبد الرحمن بن القاسم وقال: كان إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كأنما نقع وجهه وجف لسانه. ومثله عامر بن عبد الله بن الزبير. وكان الإمام الزهري رحمه الله أهنأهم، ولكنه كان إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنك ما عرفته ولا عرفك.." .
وهذه العاطفة هي السبب الرئيس في بناء منهج علمي دقيق يتوخى حراسة الحديث النبوي الشريف مؤسَّس على قانون الإسناد الذي يعد من خصائص الأمة الإسلامية، قال أبو علي الجياني: "خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطِها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب" . ومما ورد في فضل الإسناد قول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" ولذلك فعند النظر في أي حديث لابد من البحث في إسناده ومعرفة مدى صحته من خلاله. وقد نتج عن نظرهم في الإسناد محاور بحثية كثيرة، منها: - محور الكشف عن الوضاعين، إذ لولا الإسناد لما عرف أمرهم، والحديث الموضوع في الاصطلاح هو ما تفرد بإسناده كذاب. - محور أعداد المرويات لكل راو من رواة الحديث، بحيث كان هذا الأمر معروفا ومحددا عند المحدثين. - محور الاتصال في الإسناد، أي مدى اتصال الرواة والحلقات والتحقق من عدم وجود أي سقط، حتى يتأتى التعرف على هوية كل الوسائط، وحقيقة أهليتهم للرواية. - محور التحقق من حصول السماع من عدمه بين الراوي وشيخه، وقبله اللقي. وهذا الفرع الدقيق كان موضوع بحث الحفاظ الراسخين من أهل الحديث، ومجموع مسائله مدون في كتب العلل والرجال والتواريخ، وذلك كالعلل لابن المديني، والتاريخ الكبير للبخاري. - محور معرفة مقدار ضبط الرواة؛ إذ الشرط في الراوي أن يكون عدلا ضابطا. والعدالة لها طرق تعرف بها، أما الضبط فإنه يعرف من خلال النظر في الأسانيد وموازنة بعضها ببعض، وبذلك يعرف وَهَم من وهم وأخطأ، وإصابة من ضبط وأتقن، بل إنهم عرفوا عدد ما أخطأ فيه الرواة بشكل دقيق، ولهم في ذلك إحصائيات وقوائم معروفة، ومثاله أنهم أحصوا لشريك بن علي النخعي أنه أخطأ في أربع مائة حديث. - التمييز بين مراتب التلاميذ عن الشيخ الواحد، وتصنيفهم إلى طبقات من حيث مقدار الملازمة للشيخ، وكذا مقدار الحفظ والإتقان عنه خاصة. ويسترشد في ذلك بما ذكره الإمام الحازمي في هذا الموضوع في كتابه: "شروط الأئمة الخمسة". - فرز الأحاديث بناء على مخارجها الإسنادية، فقد ميزوا فيها بين ما كان رواته من البصرة أو من الكوفة أو غيرهما من البلاد، وأجروا النقد على أساس ذلك، بحيث إذا كان الحديث بصريا فالمعول فيه على البصريين، وإذا كان الحديث حجازيا فالمعول فيه على الحجازيين، وهكذا في كل حديث، ولا سيما حينما يقع الاختلاف بين الرواة.
أنموذج تطبيقي
تم ختم الأستاذ درسه بالحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: {جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله فقال: "اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا". فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ثم قال: "ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كان لها حجابا من النار". فقالت امرأة منهن: يا رسول الله اثنين؟ قال: فأعادتها مرتين ثم قال: "واثنين واثنين واثنين" . قال البخاري عقبه: "وقال شريك عن ابن الأصبهاني حدثني أبو صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة الحديث" . فهذا الحديث راويه عن أبي سعيد الخدري هو أبو صالح ذكوان، والراوي عنه عبد الرحمن بن الأصبهاني وعنه شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث، وشاركه في الرواية أبو عوانة وكان أكثر ضبطا للكتاب من ضبط الحفظ، وشريك أقل منهما ضبطا وحفظا، وكانت له أوهام، ولهذا أورد البخاري روايته معلقة وفي سياق المتابعة كما تقدم. وفي الحديث إشارة إلى أن النساء شقائق الرجال في الأحكام والتكاليف؛ إلا ما جاء الشرع بتخصيصه؛ ومن ذلك الحق في التعلم.
الدكتور محمد بنكيران
Commentaires