الكلام في الحديث النبوي وعن الحديث النبوي لفضيلة الدكتور محمد بنكيران

By Damssiri, 1 avril, 2023

 

قدم الأستاذ محمد بنكيران لدرسه الموسوم بـــــ: "الكلام في الحديث النبوي وعن الحديث النبوي" بذكر الجهود الكبيرة التي بذلت لخدمة الحديث النبوي الشريف، جمعا ونقدا واستنباطا وتصنيفا، فكان من نتائج ذلك أن صار الكلام على الحديث النبوي يتم من خلال مداخل كثيرة، منها:

·      مدخل التقعيد والتأصيل والاصطلاح الذي يختص به هذا العلم.

·      مدخل التفقه والاستنباط والنظر في المعاني والدلالات.

·      مدخل الصنعة الحديثية والمراد بها ملكة النقد التي يقوم عليها منهج المحدثين في التصحيح والتضعيف.

وللوقوف على كيفية نقد المحدثين للحديث النبوي بناء على الصنعة المذكورة ذكر الأستاذ نماذج وأمثلة بين فيها طريقتهم في تمييز ما يصح من الحديث مما لا يصح.

نماذج للحديث الصحيح ومناقشتها:

- الحديث الأول: رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".

أخرجه الإمام مالك في الموطأ، عن ابن شهاب الزهري (ت124هـ)، عن الثقة الثبت سعيد بن المسيَّب، عن الصحابي الجليل أبي هريرة.

وأخرجه من الأئمة: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وابن أبي شيبة في مصنفه، والنسائي في سننه الكبرى,

ومدار الحديث على الإمام ابن شهاب الزهري، لكن اختلفت الرواية عنه، فمالك يرويه عنه عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ويرويه خمسة من تلاميذ الزهري عنه عن حميد بن عبد الرحمن، منهم: الزبيدي، وشعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد الأيلي.

فخالف مالكا هؤلاء الرواة مع أنه الأتقن والأضبط، ولكن اتفاقهم على ذلك - وهم بهذا العدد - يدفع احتمال خطئهم في الرواية، ولذلك قبل الأئمة حديثهم على هذا الوجه وأودعوه في مصنفاتهم.

أما من زاوية النظر في متن الحديث فيتبين أنه موافق للوارد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأسلوبه ليس يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن نظائره قوله صلى الله عليه وسلم: "‌ليس ‌المسكين ‌الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"[1].

ومعنى الحديث أن الشديد حقيقة -أي القوي- هو الذي يغالب نفسه ويملكها ويضبط تصرفاتها وغرائزها حتى تكون خاضعة لمراد الله عز وجل، وليس الذي يجاري هواه ويضعف أمام شهواته.

وبناء على ذلك كان هذا الحديث معتمد الأئمة في موضوع تهذيب النفوس ورياضتها وتزكيتها، كالآجري في كتابه: "آداب النفوس"، والبيهقي في كتاب الآداب وفي شعب الإيمان وغيرها.

- الحديث الثاني: حديث أخرجه الأئمة الكبار: البخاري ومسلم والدرامي والترمذي وابن حبان وغيرهم عن الإمام الناقد شعبة بن الحجاج عن قتادة بن دعامة السدوسي وهو من أركان الرواية وأعمدتها في البصرة، وهو أيضا أحد الأثبات في أنس المتقنين لحديثه، عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

فهذا السند مسلسل بأئمة كبار كلهم قمم في العدالة والإتقان، وقد صححه النقاد المتخصصون على طريقتهم الدقيقة في ذلك.

وقد توبع شعبة في هذا الحديث، تابعه "الحسين بن ذكوان" المعلم البصري فأخرجه البخاري ومسلم من طريقين: شعبة عن قتادة، والحسين بن ذكوان المعلم عن قتادة كذلك.

وأما متنه فموافق لفحوى النصوص الشرعية القطعية في موضوعه، وموافق لمنهج الإسلام في بناء الإنسان، فإذا كان الحديث الأول متعلقا ببناء الإنسان من داخله باعتبار أن التغيير إنما يقع من خلاله، فإن هذا الحديث متعلق ببناء علاقة الإنسان بغيره، وطبيعة الصلات في المجتمع الإسلامي التي ينبغي أن تكون في غاية المتانة والتماسك.

 

نماذج للأحاديث الضعيفة وكيفية تضعيف المحدثين لها:

 

تحدث الأستاذ الفاضل في البداية وتحت هذا العنوان عن مدخل دقيق اعتمده المحدثون هو مدخل الأنساق الإسنادية، والتي تعني ما قاموا بإحصائه وحصره من أنساق مضبوطة في شجرة الأسانيد حتى تهيأ لهم أن يجعلوها معيارا لمعرفة ما يصح من الحديث وما لا يصح في ضوء موافقتها أو مخالفتها، فما لا يدخل تحت نسق من هذه الأنساق ردوه وضعفوه.

وهذه الأنساق ليس يضبطها إلا أصحاب الرسوخ في هذا العلم أمثال "ابن معين" و"ابن المديني" و"أحمد بن حنبل" و"البخاري" وأمثالهم.

ويذكر مما ضعفوه بناء على ذلك:

- الحديث الذي يروى عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك".

فهذا الحديث هو بحسب الظاهر مسلسل بالثقات، ومثله يقال عنه صحيح إذا وقع الاكتفاء بظاهره، لكنه معلول غير صحيح، قال عنه محمد بن إسماعيل البخاري لما سأله عنه مسلم بن الحجاج: {هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قولَه، فقال البخاري: هذا أولى، ثم قال: فإنا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل}[2]، أي ليس عندهم في الأنساق المعروفة رواية لموسى عن سهيل.

فالحديث إذن تم تضعيفه بناء على معيار الأنساق.

- الحديث الثاني: ما أخرجه البزار وأبو نعيم والبيهقي جميعهم من طريق الفضل بن بكر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث ‌مهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الرضا والغضب".

فقتادة من أساطين الرواية، لكن "الفضل بن بكر" الذي روى عنه الحديث ضعيف غير مأمون، ولا يتابع على رواياته، ولا يقبل تفرده، والراوي عن الفضل وهو أيوب بن عتبة ضعيف غير ثقة، فكان الحديث ضعيفا غير مقبول.

وإنما أخرجه الأئمة الأعلام في مصنفاتهم لبيان ضعفه. ولم يخالفهم أحد في الحكم عليه بالضعف.

وللحديث طرق أخرى عن غير الفضل، ومخارج أخرى عن غير أنس، ولكن لم تسلم كلها من الضعف.

فمن ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط عن الوليد بن عبد الواحد التميمي، تفرد به عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر.

فالوليد لا يعرف، وابن لهيعة فيه كلام معروف، ولذلك علق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد بقوله: {وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف}.

ويروى أيضا عن ابن عباس لكنه ضعيف.

- الحديث الثالث: أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن معاوية بن الحكم السلمي "أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنما لي. فجئتها. وقد فقدت شاة من الغنم. فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب. فأسفت عليها. وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعليّ رقبة أفأعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌أين ‌الله؟" فقالت: في السماء. فقال: "من أنا؟" فقالت: أنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها"

فالحديث صحيح الإسناد بلا شك، وظاهره يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام الجارية إذ شهدت أن الله في السماء، لكن هذا المعنى مخالف تماما للمعروف من هديه صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام الناس بناء على ما صح من النصوص والروايات، هذا علاوة على أن اعتقاد أن الله في السماء لا يثبت إيمانا ولا ينفيه، فكيف يجعله النبي دليلا على الإسلام؟

فدل هذا على أن المتن شاذ يخالف القطعي من النصوص، وقد يكون سبب ذلك تصرف أحد رواته فيه بترجمة إشارة الجارية؛ لكونها أعجمية أو أنها لا تعرف الكلام.

ويشار هنا إلى ما كان لابن حبان من ملحظ دقيق عند تخريجه للحديث حيث ترجم له بقوله: "باب ذكر إثبات الإيمان للمقر بالشهادتين معا"، فلم يعرج على ذكر ما يتعلق بكون الله عز وجل في السماء.

وهذا نزر يسير وغيض من فيض مما يظهر مقدار تدقيق المحدثين في نقد نصوص الحديث، وبراعة الصنعة التي تمكنوا بها من صونها مما ليس منها.



[1]- صحيح، البخاري كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى {لا يسألون الناس إلحافا}

[2]- معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص: 114‌‌

 

 

القسم
est_slider
Off
Fil Actualité
Désactivé

Commentaires