الذوق الفني فـي النقد الحديثي

By Damssiri, 29 mars, 2023

استهل الأستاذ محمد بنكيران كلامه في هذا الدرس الذي وسمه بــــ "الذوق الفني في النقد الحديثي" بالحديث عن تمام البلاغة والفصاحة في الحديث النبوي الشريف وما اتصف به من حسن عباراته وجمال كلماته، مبينا أنه قسيم الوحي القرآني في هذه الناحية، ومستدلا بما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم كلامه إذ قال: "أعطيتُ جوامع الكلم"[1]، بمعنى أنه جامع للمعاني الكثيرة في المفردات القليلة، وهي خاصية فُضل بها المصطفى صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء.

وقد اتفقت كلمة العلماء من أهل الصنعة اللغوية على هذا التميز الذي امتازت به البلاغة النبوية، ويمكن استحضار ما قاله الجاحظ في هذا السياق إذ قال: "...ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم" [2].

ولهذا الكلام نظائر كثيرة في عبارات مَن سواه من العلماء دالة على الإقرار بحسن السبك والبلاغة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نماذج لجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم

لقد تضمنت مصنفات السنة النبوية نماذج كثيرة لهذه الأحاديث الجوامع، يمكن أن نذكر منها:

·      قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه"[3]

·      وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يربيك"[4]

·      وقوله: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"[5]

·      وقوله: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"[6]

·      وقوله: "أعتق النسمة وفك الرقبة" [7]

وفي كل هذه الأحاديث من العبارات ما لا يستطيع البلغاء والفصحاء تعويضها بعبارات أخرى، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم جامع يُجمل المعاني الكثيرة في كلمات جزلة فصيحة، ومحققة للغرض.

وقد كان من نتيجة إدراك العلماء لهذه الخاصية في أحاديثه صلى الله عليه وسلم أن اتجهوا إلى جمعها وتدوينها، كما هو صنيع ابن الصلاح والنووي وابن رجب وغيرهم.

ونذكر من هذه الأحاديث الكلية الجامعة التي نالت اهتمامهم وعنايتهم حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"[8] الذي اعتبروه مشتملا على ربع الدين.

اعتبار الفصاحة معيارا للنقد الحديثي

 اشتغل العلماء بالحديث النبوي من ناحية بلاغته وأسلوبه، فأكسبهم ذلك تمرسا ومعرفة بطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والكلام، ومن خلال هذا التمرس والمعرفة حصلت لهم ملكة وهيئة نفسانية صاروا يدركون بمقتضاها حقيقة حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويميزون بين ما يصلح أن ينسب له وما لا يصلح، وعلى أساسه يقبلون الحديث أو يردونه من غير حاجة في بعض الأحيان إلى النظر في إسناده وأحوال رجاله. فكل قول نُسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه -على سبيل المثال- تمييز للناس على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو القبيلة فهو مردود، لكونه مخالفا للمعهود عندهم من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وللأصل الذي أقره صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنتم بنو آدم وآدم من تراب". [9]

وتلك الملكة نفسها التي نتجت عن كثرة التمرس بأسلوب الحديث النبوي تحولت إلى معيار من معايير النقد الحديثي، فانعدام الفصاحة المعهودة في اللفظ المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووجود الركاكة فيه سواء على مستوى الأسلوب أو المعنى يؤدي إلى عدم قبول الحديث، ويمكن التمثيل لهذا الأمر بما قاله أحد النقاد حين سئل: {متى لا تقبلون الحديث؟} فقال: {إذا جاءك مثل: لا تأكلوا القرع حتى تذبحوها}، وذلك لأنه لا يمكن أن يصدر عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكلام.

وبناء على هذا الأمر نفسه يرد ما قاله أحد الوضاع: "يكون في أمتي رجل اسمه محمد بن إدريس، هو أضر على أمتي من إبليس".  فما عهد من رسول صلى الله عليه وسلم نبز الأشخاص ولمزهم، وتعيينهم في مثل هذا المقام.

  وقد استطاع العلماء من خلال كثرة تتبعهم لكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يجمعوا ما سمّوه "أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وبوَبوها إلى أبواب، ثم صُيرت هي نفسها معيارا من معايير النظر النقدي في الحديث، وهذا من عجائب هذا الباب، أن  ينقد الحديث بما عُهد من أسلوبه صلى الله عليه وسلم.

على أن هذا الأسلوب النقدي لا ينحصر في نقد نوع من الأحاديث دون الآخر كأن يختص الأمر بأحاديث الأحكام فقط، أو بأحاديث الفضائل أو ما شاكلهما؛ وإنما يشمل الأمر كل أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام بدون استثناء، وبالتالي فهو مقياس عام وشامل، ويصلح لنقد مجموع الأحاديث النبوية.

وخلص الأستاذ إلى ضرورة استشعار عظمة السنة الشريفة من هذه الناحية، وتفيئ ظلال بلاغتها وروعتها، ولزوم مراعاة الذوق الفني في قبولها وردها.

الدكتور محمد بنكيران

الحواشي:


[1]- أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة

[2] - البيان والتبيين: من أقوال رسول الله وأحاديثه وخطبه {2\14}

[3] - رواه مالك في الموطإ كتاب حسن الخلق ‌‌باب ما جاء في حسن الخلق

[4]- أخرجه أبو داود الطيالسي في المسند، وأحمد في المسند رقم 1723بألفاظ متقاربة مرفوعا عن الحسن بن علي.

[5] - أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة}.

[6]- أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها

[7] - رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم 775

[8]- أخرجه البخاري: باب كيف كان‌‌ بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[9]- أخرجه أبو داود: أول كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب. 

القسم
est_slider
Off
Fil Actualité
Désactivé

Commentaires