الحديث النبوي وقضية الاستعمال

By Damssiri, 28 mars, 2023

أكد فضيلة الأستاذ محمد بنكيران في بداية درسه الذي عنونه بـ: "الحديث النبوي وقضية الاستعمال" على أهمية الفهم والتفقه في الحديث، إذ الرواية تقتضي ذلك وكذا الاستنباط من باب أولى، وكل ما له تعلق بالحديث النبوي الشريف يستدعيه ويفرضه.

ويدل التاريخ أيضا على أنهما كانا متلازمين على مر السنين، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا حين ندب إلى رواية حديثه بفقه، وذلك في الحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"[1]. حيث قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين رواية الحديث والدعاء لراويه، مع التنويه بالتفقه فيه، وهذا ما يُحتاج معه إلى التزود بقواعد الاستنباط والأصول الفقهية سواء عند رواية الحديث، أو استنباطه، أو استعماله. وهذا الأمر الأخير حظي من لدن العلماء بعناية كبيرة، فاهتموا لتحقيقه بأسباب الورود، وزمن الورود، والتمييز بين المحكم والمتشابه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ وغيرها من الأمور التي تعين على قضية الاستعمال في الحديث، فيُعرف من هذا كله أنه: "ليس كل حديث صحيح يعمل به"، كما أن العمل لا يقتصر على الصحيح فقط، بل قد يُعمل بأحاديث ضعيفة.

تقسيم الأحاديث من حيث الاستعمال وأمثلتها

يمكن تقسيم الأحاديث بناء على ما سبق إلى أنواع، منها:

  • حديث صحيح يعمل به
  • حديث غير صحيح يعمل به
  • حديث صحيح لا يعمل به

ومن أمثلة القسمين الأخيرين:

1-حديث صحيح لا يعمل به

تقول القاعدة ليس كل حديث صح إسناده وجب العمل به، فقد يأتي الحديث بما يباين المعقول، ويخالف ما ورد في المنقول، أو يناقض الأصول المقررة، فيتوقف العلماء عن العمل به إلى حين، وقد لا يعملون به.

ومثال ذلك ما أخرجه الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌ما ‌من ‌أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام"[2]. قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي: "هذا الحديث صحيح"، ولكن الحافظ ابن رجب بين أنه غريب بل منكر[3].

ومثله أيضا ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما،أنه قال في قوله تعالى: ﴿الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن﴾ قال: ‌"سبع ‌أرضين ‌في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم،ونوح كنوح،وإبراهيم كإبراهيم،وعيسى كعيسى"[4]، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ولكن البيهقي قال: شاذ بمرة. فرغم صحة الإسناد عد المتن مخالفا للأصول، والمراد بذلك أصل خاتمية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وهناك أمثلة أخرى لأحاديث صح إسنادها ولم يعمل بها؛ مما قد يوجد حتى في كتب الصحاح كصحيحي البخاري ومسلم؛ بسبب مخالفتها المنقول أو المعقول أو الأصول.

لكن تجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس يحق لأحد سوى العلماء الفقهاء القول في هذا الباب أو الخوض فيه بتاتا.

 ومن أمثلة هذا أيضا ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار"[5].

وهذا الحديث هو من حيث الإسناد صحيح لا كلام عليه، لكنه يعارض ما جاء في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ويعارض كذلك القواعد العامة المقررة في الشريعة الإسلامية مما يستدعي التوقف والتمهل في الحكم على صحة متنه. وبناء على ذلك فقد اعتبر العلماء الحديث المتقدم شاذاً لا بالمعنى الاصطلاحي، وإنما من حيث المعنى والفقه، ولذلك لا يعمل به.

2-حديث لايصح سنده ويعمل بمتنه

ومثاله الحديث الذي أخرجه الترمذي في زكاة الخضروات عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات-وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء"[6]. قال الإمام الترمذي: "هذا حديث غير صحيح، ولا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء...والعمل على هذا عند أهل العلم". فجمهور الفقهاء يقولون بعدم وجوب الزكاة في الخضروات، وخالف في ذلك الحنفية. والسبب في العمل بما يوافق هذا الحديث وإن لم يصح سنده عند العلماء هو أن الحكم لم يُبن عليه فقط، وإنما انبنى على أمور أخرى تعضده وتقوي معناه، ومن ذلك الحديث المرفوع: "ليس في الخضروات صدقة"[7]. ومعه قرينة قوية وهي عدم ثبوت أخذ الزكاة عن الخضروات في المدينة المنورة، رغم أنها كانت بيئة زراعية.

وبهذا تتضح أهمية التفقه في الحديث وضرورة الإحاطة بجميع القرائن وعدم النظر فيه استقلالا عن مجموع هذه الأمور.

الدكتور محمد بنكيران

الحواشي:


[1]- "التقاسيم والأنواع "لابن حبان النوع التاسع، ذكر وصف الغنى الذي وصفناه قبل 3630، المستدرك على الصحيحين كتاب العلم، حديث كعب بن مالك رقم294.  وممن رواه أيضا: أبو داود في السنن عن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر ‌الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، والترمذي في جامعه عن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "‌نضر ‌الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع" وقال: حسن صحيح.

[2]- الاستذكار لابن عبد البر كتاب الطهارة باب جامع الوضوء.

[3]- ابن رجب الحنبلي في "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور"K قال: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات وهو كذلك، إلا أنه غريب بل منكر.

[4]- المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب التفسير باب ‌‌تفسير سورة الطلاق.

[5]- صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين.

[6]- سنن الترمذي: أبواب الزكاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في زكاة الخضراوات

[7] - أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن موسى بن طلحة مرسلا، والبزار في مسنده عن موسى بن طلحة،عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ‌في ‌الخضروات ‌صدقةّ". وذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف عن علي بن أبي طالب.

 

القسم
est_slider
Off
Fil Actualité
Désactivé

Commentaires