بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصبه.
في درس جديد من هذه الدروس الحديثية المباركة، نتناول موضوعا يتعلق بخدمة جليلة للحديث النبوي وصيانة السنة، هو جهود النقاد في الجواب عن الأحاديث المستشكلة. وقد بسطت الحديث فيه من خلال ثلاثة محاور؛ جعلت المحور الأول لبيان ظاهرة استشكال الحديث النبوي وأهم أوجهها، والمحور الثاني للحديث عن أسباب الاستشكال ومظان الجواب عنها، وأما المحور الثالث فخصصته لنماذج تطبيقية.
المحور الأول: نشأة ظاهرة استشكال الحديث النبوي وأهم أوجهها وجهود الجواب عنها
إن ظاهرة استشكال الأحاديث رافقت رواية الحديث النبوي، شأنها شأن رواية كل النصوص الأدبية من شعر ومنثور قول وغير ذلك، ولذلك أحدث المحدثون الفقهاء لهذا النوع من النقل مناهج وقواعد تجيب عن هذه الاستشكالات، أثمرت كتبا وفنونا متنوعة.
واستشكال الأحاديث ظاهرة قديمة بدأت منذ عهد الصحابة الكرام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن القول بوجود صور منها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سعى الحافظ ابن فورك -رحمه الله- إلى تفسير هذه الظاهرة في كتابه النفيس "مشكل الحديث وبيانه"، يقول: "إن آي الْكتاب قِسْمَانِ:
· فقسم هُوَ مُحكم تَأْوِيله بتنزيله يفهم المُرَاد مِنْهُ بِظَاهِرِهِ وذاته
· وَقسم لَا يُوقف على مَعْنَاهُ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْمُحكم وانتزاع وَجه تَأْوِيله مِنْه.
فَكَذَلِك أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَارِيَة هَذَا المجرى، ومنزلة على هَذَا التَّنْزِيل؛
· فمِنْهَا الْكَلَام الْبَين المستقل فِي بَيَانه بِذَاتِهِ،
· وَمِنْهَا المفتقر فِي بَيَانه إِلَى غَيره؛ وَذَلِكَ على حسب عَادَة الْعَرَب فِي خطابها، وَعرف أهل اللُّغَة فِي بَيَانهَا.
إِذْ لم يكن كل خطابهم جليا بَينا مستغنيا عَن بَيَان وَتَفْسِير، وَلَا كُله خفِيا مستحيلا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَتَفْسِير من غَيره.
فَإِذا كَانَت دَلَائِل الْعقل على مَا فطر الله تَعَالَى عَلَيْهَا الْعُقُول منقسمة، فَكَذَلِك دَلَائِل السّمع منقسمة.
وكما لم يُعْتَرض بمَا خَفِي من دَلَائِل على مَا تجلى مِنْهَا حَتَّى يسْقط دَلَائِل الْعُقُول رأسا، فَكَذَلِك مَا خَفِي من دَلَائِل السّمع لَا يعْتَرض بها على مَا تجلى مِنْهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ الله عز وَجل أَن يرفع الَّذين أُوتُوا الْعلم بخصائص رَفعة ودرجات فِيهَا، يبين حَالهم بهَا عَمَّن لم ينعم عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا"(1).
وهذه الظاهرة قديمة، وما يجري اليوم لم يخرج عن الاستشكالات القديمة، ونجد من أوجه الاستشكال:
الاشتغال برواية الأحاديث النبوية، والاهتمام بها، فمن الناس من يعتقد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حديثه مصدر تشريع، فاستشكل أن تروى أحاديثه، وقال: بأن في كتاب الله الكفاية والغنية، لأنه كتاب بين. وقد أجاب الإمام الشافعي -رحمه الله- إجابة مستفيضة عن هذا الاستشكال بكتاب نفيس سماه (جماع العلم)، فتناول كل الشبه التي يستند إليها القائلون بهذا الاستشكال، والعجيب أن الإمام الشافعي –رحمه الله- لم يتناول ولم يخض معهم في أفراد الأحاديث التي استشكلوها؛ لأنه لم يسلم لهم أصلا بهذا الاستشكال، فأجاب عن ذلك ثم بعد ذلك نقلهم إلى أفراد الأحاديث.
ومن صور الاستشكال أيضا ما يأتي من الأحاديث في مجال الإخبار عن الله عز وجل وعن الأمم السابقة، وعن الغيب، وعن ذكر بعض المخلوقات من حيوانات وبحار وغير ذلك، وهذا النوع من الاستشكال استندوا فيه إلى استبعاد كون رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يحدث بما لا يفهمه عامة الناس. فهذا الاستشكال أيضا أجاب عنه العلماء في فن يسمى بعلم الكلام، أو في التاريخ.
وأيضا من أوجه الاستشكال؛ استشكال أحاديث وردت في شأن بعض الآداب، التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنها لا تزال قائمة في أمم في زماننا؛ كأن يـأكل الإنسان بيديه ويلعق أصابعه... فإن مثل هذه الأحاديث استشكلت، وسبب الاستشكال فيها هو النظر إلى ما عهد من عادات المستشكل في محله وزمانه، حيث وجدت الملاعق، ووجدت الوسائل التي يستعين بها الإنسان في أكله وشربه.
ومن أوجه الاستشكال أيضا ما يبدو في الأحاديث التي وردت فيما فيه علاقة بطبيعة النبي صلى الله عليه وسلم البشرية، في علاقته بأزواجه وفي علاقته بالناس من غير أزواجه، وفي بيعه وشرائه، وفي غضبه...، فهذه أجاب عنها العلماء بوضع قاعدة نفيسة جليلة هي قاعدة تمييز تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة وبالنبوة والرسالة وبالقضاء وبطبيعته البشرية.
ومن أوجه الاستشكال أيضا ما استشكل من الأحاديث التي تأتي في بعض الطرق مختصرة، وفي طرق أخرى مطولة مبسوطة، فيستشكل البعض هذا الاختلاف بين الرواة في نفس الواقعة، ويقول: لعل هذه الأحاديث المطولة المبسوطة إنما هي من استزادة الرواة، أي أن الأحاديث القصيرة هي الأصل، وبدأ الرواة يضيفون ويمددون ويطولون فيها إلى أن صارت على النحو الذي صارت عليه تلك الأحاديث المطولة، وسبب هذا الاستشكال طبعا يرجع إلى كون الناظر يجهل حقيقة الرواية وطبيعتها والأجوبة عنها. فقد أجاب عن هذه الظاهرة، النقاد ومحدثو الفقهاء من خلال كتب شروح الحديث وعلله، ومن خلال كتب التخريج التي تبين أصل الرواية وفروعها، وتكفلت كتب علوم الحديث بدراسة أسبابها.
ومن أوجه الاستشكال أيضا ما يستشكل من الأحاديث الواردة في شأن بعض الحيوانات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وما يستشكل من خلق الإنسان كما جاء في حديث الخلق عن سيدنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(2)، فاستشكل البعض هذه الأحاديث، فأجاب عنها العلماء أيضا إجابات مبسوطة بينوا فيها وميزوا فيها بين ما هو في التقدير الكوني وبين ما هو في التقدير الشرعي، أي: التقدير الكوني الذي هو إخبار عن الله عز وجل وعن فعله، والتقدير الشرعي الذي يحاسب فيه ربنا عز وجل الإنسان عن فعله بناء عن استجابته لأوامر الله عز وجل ونواهيه، وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه.
المحور الثاني: أسباب الاستشكال
وإذا نظرنا إلى هذه الأوجه التي وقع الاستشكال فيها، فإنه يمكن أن نخلص إلى أن أسباب الاستشكال تعود إلى الآتي:
أولا: تعارض المعقول مع المنقول، والمحكم مع المتشابه: فقد يكون الاستشكال بسبب تعارض الرواية مع المعقول والمحكم من المنقول، أما التعارض مع المعقول فيشترط فيه أن يكون من قبيل الاستحالة العقلية، التي يستوي فيها العقلاء في العادة. أي كاجتماع النقيضين، وكأن يجتمع الليل والنهار، وما عدا ذلك لا يمكن أبدا أن يعتبر استحالة، فكل ما جاز في العقل فإن قبوله إذا صح بوجه من وجوه التعبير العربي، ووفق معهود الخطاب العربي وبيانه وفصاحته، فإن العمل به والقبول يكون معتبرا.
ثانيا: الاعتقاد؛ كما نظرنا في المظاهر السالفة الذكر: فإذا كان الانسان يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسنا مطالبين بطاعته في ما أمر ونهى، فلا شك أنه سيستشكل، ولذلك فإن الكلام مع مثل هؤلاء ليس في أفراد الأحاديث التي يوردونها، وإنما الحديث معهم في أصل هذا الاستشكال، وإلا فإننا نكون مشتغلين بالفرع مع عدم ثبوت الأصل.
ثالثا: العادة: ما يعتاده الإنسان المستشكل في حضارته وفي مجتمعه وفي عاداته، فإذا كان الإنسان قد اعتاد شيئا فعليه أن لا يستشكل الأحاديث التي ترد على خلاف معهوده وليست مستحيلة في العقول، ولذلك أحاديث كثيرة استشكلت مرجعها في الحقيقة إلى أن ذلك كان سائغا في ذلك الزمان؛ ومن ذلك ما رواه سيدنا جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة"(3). فإن هذا يستقيم في مجتمعه عندما تكون التربة سليمة، ويكون المكان نظيفا وشبه معقم بالحرارة، وما أكثر ذلك في الأماكن الساخنة، وأيضا يكون عندما يكون الإنسان في حال قلة أو جوع، أو إكرام للطعام، فالجياع اليوم في العالم نرى كيف يأكلون أشد من ذلك اتساخا، وأشد من ذلك من حيث عدم السلامة الغذائية. لذلك فإن هذا النوع من الاستشكال الذي يكون خاضعا للعادات غير معتبر، فلا بد أن يكون الاستشكال قائما في عقل العامة والخاصة.
رابعا: الجهل بالفنون التي تناولت كل حديث مشكل، وفق قواعد ومناهج ذلك الفن: كفن مختلف الحديث، والفقه وعلم الكلام .... وهنا أشير إلى قضية هامة ونفيسة؛ وهو أن العلماء متى استشكلوا شيئا من كتاب الله عز وجل أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوا صلته بالتشريع، أو له صلة بمقاصد الدين وآدابه وأخلاقه وما جاء به من الفضائل، فإنهم يحدثون له فنا يسمى علما بعد ذلك، فمثلا عندما استشكلت أحاديث الأحكام ووجد الخلاف في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحاديثه، أحدث الفقهاء فنا يسمى "الفقه"، وطوروه إلى علم الفقه المقارن، وهو علم يجيب فيه أصحاب كل مذهب على اختيارهم من الأحاديث، ويجيبون عن استشكالات يوردها عليهم من خالفهم من الفقهاء، ونفس الشيء يقع في المذهب الآخر، يجيبون عن الأحاديث التي يحتج بها أصحاب المذهب الآخر، ويجيبون عن الاستشكالات التي تستشكل على الأحاديث التي استندوا إليها.
وعندما وقع الاستشكال في أحاديث الصفات وأفعال الله عز وجل وفي كل ما يتعلق بالسمعيات من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحوال القبر والموت وأحوال القيامة وما فيها من ذلك، جاء فن طريف، هو علم الكلام، يتناول القضايا المتعلقة بهذه الغيوب. وتسمى السمعيات، لأن العلم بها حصل من جهة النقل عن الله ورسوله.
خامسا: أحاديث الصفات، فأحاديث الصفات حرص العلماء على أن يزيلوا جانب التشبيه فيها، وأولوا هذه الصفات بناء على قواعد تحتملها اللغة العربية، ومعهود العرب، وتبعد التشبيه عن الله عز وجل في صفاته بمخلوقاته.
سادسا: تنوع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار محيطه وعلاقاته، فتبين أن هناك أشياء تتعلق به ببشريته، وتبينت أشياء تتعلق بنبوته، وهناك أشياء تتعلق به قائدا للدولة وزعيمها، فبحث العلماء هذه الأخبار وميزوها ودفعوا كل أنواع الاستشكالات التي يمكن أن ترد عليها. وجميل أن نذكر هنا أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ من أقوال وأفعال وتصرفات كلها، كانت تحت المجهر، كلها كانت مكشوفة معلومة لدى الجميع. وإن هذا ليكون مفخرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي التشريع الإسلامي أيضا، وكل من منع تتبع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور التي تكون من قبيل أنه بشر، أو تكون أنها من قبيل العادات، فإن هذا القول لا يستقيم؛ لأن العظماء اليوم والعظماء في التاريخ يتتبع الناس أحوالهم، ويبحثون عنها في النقوش ويتأولون العبارات والكلمات التي دونت بها، فكيف بنا وقد حفظ الله تعالى سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأسلوب حياته وعلومه تدوينا متينا وتتبعا دقيقا، فكل من ينعى على المحدثين أنهم تتبعوا حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأوردوا هذه الأحاديث التي تبين كيف كانت علاقاته مع أصحابه، وكيف كانت علاقاته في حياته اليومية، في نفسه وأسرته وكل محيطه، فإن كل من يذم المحدثين على ذلك فإنه في الحقيقة جاهل بأسباب هذا التتبع، وجاهل بالفوائد التي تترتب عليها، ومنها بيان كتاب الله عز وجل، وبيان ظروف نزول هذه الآيات، وفي بيان ظروف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل وكيفية تعبده، ونموذج العيش وفق مراد الله، والصورة الواقعية للشريعة الإسلامية.
إذا تبين لنا ذلك عرفنا على أنه هنا بالفعل أحاديث مشكلة، وعرفنا على أن الاستشكال أمر طبيعي في كلام البشر، وعرفنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ومن أوتي جوامع الكلم لا شك أن من لم يكن بليغا وعارفا بسياق الكلام سيستشكل هذا الكلام الذي يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، إذا عرفنا كل هذا فإن الاستشكال الذي يحصل نوعان كبيران
أولا: ضعف الرواية، وإذا كان ضعف الرواية، فالأمر هان وزال الإشكال.
ثانيا لغة الخطاب وطبيعتها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان بليغا، وبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم هي بلاغة العرب، فلا بد إذن من أن نتعامل مع ما ينقل عن رسول الله صلى الله عليه بأسلوب حديث العربي القح، وأيضا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تصرف باعتباره بشرا، وتصرف باعتباره نبيا، وتصرف باعتباره حاكما إماما وقاضيا، فهذه التصرفات كلها لا بد من استحضارها ونحن نشرح ونبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما يتعلق باستشكال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسبابه، وجهود الجواب عنه.
وبعد هذا، نقدم نماذج من الحديث النبوي ببيان صحتها أو ضعفها، وإمكان العمل بها.
فهناك أحاديث صحيحة لا يعمل بظاهرها. وبعض الأحاديث نجد أنها موضوعة مختلقة، وبعض الأحاديث ضعيفة لكنها توافق ما عليه عمل أهل العلم والفقه.
أما الحديث الأول الذي سنفحصه فهو حديث رواه الإمام مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي، هذا الحديث مروي من قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، ذلك أن الأسود بن زيد كان مع الشعبي رحمه الله، وجعل الشعبي يحدث عن فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها طلاقا ثلاثا، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن زوجها لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فقضى لها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا سكنى لها ولا نفقة، هكذا يروي الشعبي، فحصبه الأسود وقال له: اعلم ما تقول، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد بلغه هذا الكلام عن فاطمة بنت القيس، فقال رضي الله عنه: لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت؟(4).
فكتاب الله يقول: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ (الطلاق:6). ولم يفرق بين المبتوتة وغيرها، فقضى عمر رضي الله عنه للمبتوتة بالسكنى، فعلمنا هنا أن ظاهر هذا الحديث قد ترك ولم يعمل به، سواء كان خطأ من الرواية أو صح، ولكن ليس عندنا ما يدل على الخطأ إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما أخذ الحكم من الآية، وجعله قاطعا، وأول بذلك الخبر الذي ذكره الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. من هنا يتبين لنا على أن الحديث وإن كانت ترويه صاحبة القصة فإنهم لم يأخذوا بظاهر هذه الرواية، ولم يمنع المرأة من السكنى ولم يجعل لها النفقة، وأخذ الإمام مالك والشافعي وأحمد –رحم الله الجميع- بهذا، فجعلوا للمبتوتة السكنى ولم يجعلوا لها النفقة، وهناك رواية تفيد بأن عمر بن الخطاب قد جعل لها النفقة، ولكنهم لم يجعلوا النفقة لأنهم وجدوا حديثا صريحا في الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لفاطمة بنت قيس نفقة لما طلقت طلاق البتات من زوجها.
ومن ذلك أيضا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي أخرجه مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"(5). فظاهر هذا الخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب الغسل على كل محتلم، أي: على كل مكلف، لكن سيستشكل على هذا الخبر مع حديث آخر رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"(6). فجاء في هذا الخبر أن الغسل ليس واجبا، وبهذا أخذ جميع الفقهاء، فكان الإجماع على أن الغسل يوم الجمعة ليس واجبا، فترك الناس ظاهر الخبر الأول.
إذن من هنا نعلم على أنه ليس كل حديث نقرأه ويكون صحيحا من جهة الرواية يمكن أن نعمل بظاهره، وليس ترك العمل بالظاهر أمرا خاضعا للهوى، بل هو منضبط بمنهج دقيق، ولذلك فإنهم يعملون به عندما لا يوجد ما يعارضه، ونتحدث هنا عن الأحاديث الصحيحة، فما لم يمكن الحديث صحيحا فلا عبرة بحكمه، ولا بما اشتمل عليه من آداب.
ونذكر فيما يلي حديثا موضوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث جعفر بن حسن بن فرقد عن أبيه حسن بن فرقد عن أبيه غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، فالسعيد من وجد لقدمه موطئا، ومن برأ ربه من ذنبه فليدخل الجنة"(7). قبل بيان معناه المستشكل، نذكر حكم ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-، قال: هذا الحديث موضوع، والمتهم به هو جعفر بن الحسن، فقد كان قدريا وجاء بهذا الحديث ليدعم بدعته في نفي القدر، وقال ابن عدي: أحاديثه مناكير، وقال يحيى بن معين: "الحسن ليس بشيء" وهو أبو جعفر.
أين يظهر القدر في هذا الخبر؟ في البداية قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين على صعيد واحد، إلى هنا هذا الشيء معمول به ومعروف ومؤكد، ثم قال: "والسعيد من وجد موطئا لقدمه" لكن في الأخير ختم بكلمة أدخل فيها بدعته "ومن برأ ربه من ذنبه فليدخل الجنة" أي: أن الله سبحانه وتعالى ليس له سلطان على فعل الناس، فهؤلاء ينفون أن يكون الله عز وجل قدر شيئا على الإنسان، فأخرجت بدعة هذا الرجل بالمنقاش من خبره، وحكم العلماء النقاد على هذا الحديث بالوضع.
وبهذا أيها السادة المستمعون والمشاهدون؛ يتبين لنا على أن استشكال الحديث له أسباب عديدة، ووجود الاستشكال لا يستلزم رد الحديث، أو أنه باطل أو موضوع، بل هناك استشكال يكون سببه معتقد الشخص، وهذا المعتقد قد يكون صحيحا وقد يكون باطلا، وهناك سبب بناء على العادة التي يعتادها الإنسان، والعادة في الناس لا تكون حكما على أحوال الناس جميعا، وهناك استشكال يعود إلى اللغة، ولذلك لا بد قبل أن نستشكل، أن نتضلع في اللغة، ومعهود العرب في الخطاب وأسلوبها في فنون البلاغة وضروب المجاز وغير ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ الناس، وهناك أسباب تعود إلى طبيعة النص، إذ ليس كل موضوعات الحديث تكون معلومة لدى الجميع، فهناك أمور يعلمها المتخصصون ويعلمها المؤرخون، وهناك ما له صلة بالطب، وهناك ما له صلة بالفلك، فلذلك يرجع في كل فن إلى أصحابها.
ونعلم أيضا على أن العلماء لم يتركوا هذه الاستشكالات هكذا تمر، بل خصوها بضروب من الفنون والعلوم، فأحدثوا فنونا وعلوما تقدم أجوبة منطقية وحكيمة، وفيها ما لا يخالف أبدا قاعدة لغوية ولا أسلوبا من أسالب اللغة العربية، ولا تناقض المعقول.
وقد تعرضنا في هذا الدرس لنماذج من الأحاديث ظاهرها يفيد شيئا، وترك العلماء ذلك الظاهر إما إجماعا وإما ترجيحا.
وعرفنا أيضا على أن هناك أحاديث وردت في مجال الاعتقاد استعمل فيها الراوي عقيدته فحرف مضمونها، وفطن لها العلماء وميزوا ما أدرجه وما أفسد به المعنى وتركوا حديثه وحكموا عليه بالوضع، وبقي ذلك شاهدا في التاريخ من خلال كتبهم ومن خلال أدلة ردهم لذلك الحديث.
وبعد هذه الجولة من بحث أسباب استشكال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحث الجهود التي بذلت للجواب عن هذه الاستشكالات، وبيان أضرب من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ظاهره الصحة وليس العمل عليه، ومما هو في الحقيقة موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نأتي على ختام هذه الحلقة، ونسأل الله سبحانه وتعالى النفع العميم والبركة فيما نقول وفيما نشرح وفيما نبين.
والحمد لله رب العالمين.
الحواشي:
1- مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص41_43
2 -صحيحا البخاري ومسلم رقم الحديث بالمنصة: 4517
3 -صحيح مسلم رقم الحديث بالمنصة: 3484
4 -نص الحديث عند مسلم: عن أبي إسحاق قال: «كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ (الطلاق:1).
5 - الموطأ رقم الحديث بالمنصة. 5268
Commentaires