الصحابة الكرام: منزلتهم وعدالتهم وخدمتهم للحديث
مما هو معلوم من بالدين بالضرورة أن توقير النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه واجب على كل مسلم ومسلمة؛ يقول الله تعالى واصفاً هذا الأمر: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الفتح: 8-9). وقد تحدث القاضي عياض في كتابه الشفا([1]) عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على الأنام، فبين وفصل ما يتعلق بتوقيره ومحبته ونصرته وطاعته.
ومما توقف عنده القاضي عياض هو قوله على أن احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره يستلزم امراً آخر، والمتعلق أساساً بتوقير أصحابه الكرام، فتوقير الصحابة من توقير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا هذا الدين إلى الأجيال اللاحقة، وحافظوا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبث العابثين والوضاعين.
وقد ورد في القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيهات ونصائح تبين عدالتهم وتحث على محبتهم وتوقيرهم؛ من ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباُ ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه"([2]). ففي الحديث النهي عن تنقيص قدر الصحابة، سواء تعلق الأمر بعدالتهم أو بأشخاصهم رضي الله عنهم.
وقبل بيان مضمون هذا الحديث، لا بأس من ذكر بعض القضايا الضرورية في فهم ما يتعلق بالصحابة عموماً، منها:
· تعريف الصحابي:
عرفه الحافظ ابن حجر قائلا: "من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ذلك ردة على الأصح"([3]). والتعبير باللقيا يدخل فيه الأعمى على خلاف من قيده بالرؤية.
· معايير معرفة الصحابي:
بحث علماء الحديث عن معايير يعرف بها الصحابي، فتوصلوا إلى أن معرفة الصحابي إنما تكون بأحد أمور خمسة:
- الأمر الأول: ما يثبت بالتواتر كصحبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
- الأمر الثاني: الشهرة، أي أن المسألة لم تصل إلى حد التواتر كصحبة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه.
- الأمر الثالث: إخبار الصحابي بذلك، بأن يخبر عن صحبة رجل آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الأمر الرابع: إخبار ثقة من التابعين بأن يصرح بأن فلانا صحابي.
- الأمر الخامس: أن يخبر الصحابي عن نفسه، شريطة أن يكون عدلاً وأن تكون دعواه ممكنة. ومن هنا جعل علماء الحديث مائة سنة بعد وفاة رسول الله مدة تثبت بها الصحبة.
· ثمرات معرفة الصحابي:
تفيدنا معرفة الصحابة في أمور منها:
- معرفة المتصل من المرسل.
- فهم الدين عموماً، والحديث النبوي الشريف على الخصوص.
· مؤلفات في معرفة الصحابة:
كرس العلماء جهودهم وخصّصوا كتباً تترجم للصحابة الكرام، فهناك على سبيل المثال: كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" للحافظ المغربي ابن عبد البر، وكتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير، وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر.
فتحصّل أن معرفة قدر الصحابة وإدراك منزلتهم واجب، لأن هذا الدين إنما نقل عنهم، ومعرفة المنقول تقتضي معرفة الناقل.
· مصادر معرفة مكانة الصحابة:
القرآن الكريم: أفضل ما يستعان به لمعرفة قدر الصحابة وعدالتهم وصدقهم، القرآن الكريم الذي شهد لهم بالعدالة وعلو قدرهم ومكانتهم من ذلك قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر:8).
- حيث وصفهم بالصدق، ولذلك علماء الحديث لا يفتشون عن الصحابة من هذه الحيثية، وإنما ينظرون فيما يقع لهم من أوهام باعتبارهم بشرا يخطئون ويصيبون، وهذا لا يقدح في عدالتهم وصدقهم.
وقد رفع الله قدر الصحابة وعدلهم ورضي عنهم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:100)، حيث أسبغ عليهم رضوانه، ووصفهم بأنهم خير أمة كما في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:110).
- الحديث النبوي الشريف: هناك أحاديث تتحدث عن الصحابة وتصف أحوالهم، وتبرز ما كانوا عليه من سمو الفضل، ومنها إضافة النبي لهم إلى نفسه عندما قال: "دعوا لي أصحابي"([4])، وهي إضافة تشريف تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رضي صنيعهم وفعلهم واجتهادهم في خدمة الدين.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد اذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"([5]). ففي الحديث يربط النبي صلى الله عليه وسلم بين محبته ومحبتهم، وبين بغضه وبغضهم، وبين إذايته وإذايتهم. وهذا فيه تأكيد لفضلهم ومكانتهم.
ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"([6]). والمقصود بقوله: "قرني": الزمن الذي عاش فيه الصحابة رضوان الله عليهم. وفي هذا دليل على أن احترام الصحابة وتوقيرهم من الدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ووضحه.
ويكفي الصحابة فخراً وعلواً أنهم اجتهدوا في وضع الأسس الأولى والقوانين الرئيسية للحديث الشريف من حيث التأكد من قبول الحديث أو رده. وعند البحث فيما وصل إليه علماء الحديث، فيما يرتبط بالمصطلح والتقعيد، نجد أن هذه المحاولات التي وصلوا إليها إنما هي مبنية على اجتهاد الصحابة الكرام؛ لأن قوانين الرواية بدأت مع الصحابة الكرام، فهم وضعوا قوانين أساسية في نقد الحيث وضبط المرويات.
· قوانين الرواية عند الصحابة:
تجسدت قوانين الرواية في عهد الصحابة في أمور ثلاثة:
- الأمر الأول: التقليل من الرواية، استحضارا لوعيد النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"([7])؛ لذلك نجد أن روايات الصحابة رضي الله عنهم قليلة، حتى إن من وصف منهم بأنه من المكثرين كأبي هريرة، فجملة ما رواه، قد شاركه فيه غيره، أو هو من قبيل المكرر، فمجموع ما انفرد به من الأحاديث لا يتجاوز مائة وعشرة أحاديث تقريبا.
- الأمر الثاني: التثبت في رواية الحديث تحملا وأداء، ومثاله قصة أبي بكر في ميراث الجدة السدس([8]). والشاهد من القصة أن المغيرة بن شعبة شهد أنه حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فسأله أبو بكر - من باب التثبت -: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فشهد مثل شهادة المغيرة، فأنفذه لها.
- الأمر الثالث: نقد المرويات وعرضها على نصوص الدين وقواعده، ومثاله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردا على فاطمة بنت قيس: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت ...الحديثَ"([9]). فالصحابة رضي الله عنهم لديهم نظرة تكاملية شمولية للقضايا التي تنزل بهم باستدعاء جميع الأحاديث والآثار الواردة في الموضوع.
· شرح الحديث المتقدم: "لا تسبوا أصحابي":
يتضمن هذا الحديث أمورا منها:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيأتي على الأمة زمان تكون فيه طوائف تسب أصحابه الكرام.
والمراد بالسب: كل كلام يقصد منه الاستخفاف والانتقاص. وقد عدّ الحافظ الذهبي في كتابه "الكبائر" سب الصحابة من جملة الكبائر، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي"([10]). واللعن هو الطرد والإبعاد من منازل الأخيار ومواطن الأبرار.([11])
- سب الصحابة علامة من علامات النفاق، يقول صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"([12]). قال الإمام مالك رحمه الله: "من أصبح وفي قلبه غيظ على أحد من الصحابة فقد أصابته الآية"([13])، بمعنى النفاق.
وختاما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالصحابة الكرام؛ لأنهم حملة الدين ونقلة الحديث النبوي الشريف، وينبغي الحذر مما يروج في بعض وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية من النيل من قدر الصحابة الكرام ومنزلتهم، بل يجب على المؤمن أن يعتبر حب الصحابة عقيدة، وتقديرهم واحترامهم والدفاع عنهم من أصول الدين، كما أن سبهم أو التنقيص من قدرهم أو النيل من سمعتهم يبعث على الشك في إسلام من ينتقصهم.
([1]) ينظر: القسم الثاني من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (ج2: ص05 إلى 222).
([2]) صحيح البخاري كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" 5/08 ح3673. وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم ح2540 (221) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([3]) نزهة النظر شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني ص238.
[4]([4]) أخرجه أحمد في مسنده 21/319 ح13812. من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وعزاه السيوطي لأحمد ورمز لصحته في الجامع الصغير ص257.
([5]) أخرجه أحمد في مسنده 34/185 ح20578. والترمذي في سننه 6/179 ح 3862. وابن حبان في صحيحه 16/244 ح7256. من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب". قال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم: "وهذا الحديث، وإن كان غريب السند فهو صحيح المتن؛ لأنّه معضود بما قدمناه من الكتاب وصحيح السنة وبالمعلوم من دين الأمة". ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير ص89. وهو موجود بالمنصة برقم 9731.
([6]) متفق عليه: صحيح البخاري كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 5/03 ح3651. وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم باب فصائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ح2533 (211). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([7]) مقدمة صحيح مسلم باب النهي عن الحديث بكل ما سمع 1/10. وسنن أبي داود كتاب الأدب باب في حسن الظن 7/344 ح4992. وصحيح ابن حبان 1/213 ح30. وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/407.
([8]) تنظر في: موطأ مالك كتاب الفرائض باب ميراث الجدة 2/832، 833. وسنن أبي داود كتاب الفرائض باب في الجدة 4/521 ح2894. وسنن الترمذي أبواب الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة 3/491 ح2101. وقال: حديث حسن صحيح. وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكره لهذه القصة من رواية أبي مصعب عن مالك: هذا حديث حسن.
([9]) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ح1480 (46).
([10]) المعجم الكبير للطبراني 12/434 ح13588. قال أحمد بن الصديق الغماري في كتابه المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي 5/253: "وهذا المتن وإن كان ضعيف السند إلا أنه صحيح لكثرة طرقه وشواهده، فلحديث ابن عمر هذا طريقان، وله شاهد من حديث جابر بن عبد اللَّه وابن عباس وعائشة وأبي سعيد الخدري وعويم بن ساعدة وغيرهم وفيها ما هو على انفراده حسن".
([11]) فيض القدير للمناوي 6/05.
([12]) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/12 ح17 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو موجود في المنصة برقم: 101.
([13]) السنة لأبي بكر الخلال 2/478. وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني 6/327. والنهي عن سب الأصحاب للضياء المقدسي ص85.
Commentaires