إن السنة النبوية على صاحبها أزكى الصلوات وأتم التسليمات، هي الأصل الثاني من أصول الدين التي لا خلاف بين المسلمين في وجوب التسليم لحكمها والرضا بقضائها، والانتهاء عن مناهيها ـ إذا ثبتت بشروطها الإسنادية والمتنية والموضوعية على شرط حكم الأئمة المتبوعين وتنصيص الحفاظ المعللين ـ ؛ لأنها تمثل مع القرآن الكريم حكم الله تعالى الذي جعله أمارة عليه في القيام بواجب الخضوع له بالكيفية المرضية عنده التي أبلغها إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بطرق الوحي المعروفة، فيكون أمر النبي بذلك أمرا لله تعالى بطريق اللزوم الذي يقتضيه الإيمان بإلهية القرآن الكريم الناص على اتباع السنة والاقتداء بصاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، كما تواتر علمه عند جميع المسلمين.
عناية العلماء بالحديث الشريف
إن وعي أئمة الحديث عبر تاريخهم الطويل بقدر الأحاديث النبوية في تنزيل أحكام الدين، واستشعارهم لخطورة الاحتجاج بها لتصرفات المسلمين، حملهم على جمعها من مظانها، وإحصاء أعدادها وأسبابها، واستقصاء مفرداتها وأفرادها، وتصنيف مسانيدها وأبوابها، وضبط أحوال حُمَّالها، وتوصيف حالات رواتها، والإيقاف على صحيحها وسقيمها، والتعيين لما لا يصح رفعه منها، والتحديد لحقيقة سياق مفرداتها، وتبيين وجه الحجة في متون معانيها، وترتيب أنواع أوامرها ومناهيها، والتشديد على تقصد أداء النكر منها، حتى لا يجد المضلون ما يدخلون فيها، ولا يبلغ المغرضون قصدهم في التشغيب عليها.
وقد توثقت إسهاماتهم في هذا العلم الشريف، في فنون التصنيف في السنة النبوية المختلفة ثم في جمهرة كتب تراجم الرواة المتعاقبة، وسائر كتب التاريخ المتكاملة، المؤرخة لتنقلاتهم، والموثقة لأنواع رحلاتهم، ووجهات طلبهم، ومواقع إفاداتهم واستفادتهم، وأعيان مشايخهم، وقدر تلاميذهم، وأنواع تصنيفاتهم وتوصيفاتهم ومكانة أقدارهم، وطبيعة مهامهم في المجتمع والدولة لحماية أمن الأمة الروحي الذي لا يصح معه أن تخلط السنة بالكذب وشبهه من المناكير.
خطورة الحديث الشريف لهذا الاعتبار في كل الأزمان
إن ما يتميز به الحديث الشريف من كونه أصلا عظيما من أصول الدين، ومصدرا أساسيا للمسلمين، وكونه شارحا ومبينا للكتاب الحكيم، على نحو لا يمكن الاستغناء عنه بحال، يدل أن للحديث من الأهمية والخطورة في كل الأزمان ما يوازي القرآن، وذلك لأن كل أبواب الدين وقضاياه من عقائد وأحكام، وفتاوى ونظام، وأخلاق وآداب، وترغيب وترهيب.. إنما تبنى عليه وتستمد منه، فهو الموجه للعقول والتصورات، والمؤطر للأفكار والتوجهات، وهو الذي يضبط إيقاع المجتمع، وينظم العلاقات في شتى الاتجاهات والمستويات، فلا يمكن -والأمر هكذا- أن يقع التساهل فيه، فيتسرب بذلك المكذوب والدخيل إلى الفتاوى والأفكار، ثم إلى مختلف المعاملات والتصرفات، وفي ذلك ضرر كبير على حياة الناس، وعلى الدين وحامليه من المسلمين.
خطورته في هذا العصر ولا سيما بوجود وسائل التواصل
وإذا كان التساهل في الحديث لا يجوز بتاتا لاعتبارات دينية وموضوعية، فإن خطورة هذا الأمر قد تفاقمت في العصر الحالي بدرجات عالية بسبب وجود وسائل التواصل المختلفة التي تسهم بشكل كبير في انتشار الأحاديث في أوساط من لا قدرة له على التمييز بين الصحيح وغيره، فيتداول بعض الناس بذلك أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا يجوز العمل بها، بل ولا تجوز روايتها إلا على سبيل التنبيه والبيان، معتقدين حجيتها ووجوب العمل بها، وتزداد الخطورة حينما يقع الاستدلال بها بطريقة فاسدة، لأغراض تخالف مقاصد الدين، وتؤثر على وحدة جماعة المسلمين، وتبث الشك في علم الأئمة المتبوعين.
فصار البيان لهذه الأحاديث ودرجتها من الصحة والضعف من أوجب الواجبات في هذا العصر، دفعا لهذا الضرر العظيم، وحماية للدين من التبدع، وللجماعة من التصدع.
عناية أمير المؤمنين أعزه الله بالحديث الشريف عامة وتنبيه الناس إلى ما يروج من الحديث الضعيف والموضوع
منذ أن أشرقت شمس الإسلام على الجناح الغربي للعالم الإسلامي، والمغاربة يبدعون في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة لسنته وذودا عن حياضه وتبصيرا للأنام بهداياته، مما بوأ بلادهم مقاما شامخا في دنيا العلم والمعرفة نالوا به وسم "دار حديث"، يؤمها أهل العلم من كل حدب وصوب للانتفاع من مدرستهم الحديثية المتميزة بمحدثيها الأثبات ومناهج علمائها الأعلام.
وقد سار الخلف على سنن السلف - سلاطين وعلماء- في الاهتمام بالحديث الشريف والاهتبال به رواية ودراية؛ حيث تضافر السلطان والقرآن وتعاضدت جهودهما في العناية بالسنة النبوية العطرة. وشاء الله تعالى أن يزدان عهد محمد السادس بما أسداه لحديث جده من جليل العمل وشريف الخدمة لما خص به أهله من نفيس الجوائز حفزا لهم على العطاء في هذا الفن المنيف بيانا لصحيحه وتنبيها لضعيفه وموضوعه، ومن خلال ما يلقى من محاضرات حديثية في الدروس الحسنية الرمضانية المنيفة.
إطلاق الدروس الحسنية من هذه العناية
حرصا من مولانا أمير المؤمنين محمد السادس - حفظه الله تعالى- على تعزيز ما من أجله أسس والده الحسن الثاني -رحمه الله - مؤسسة دار الحديث الحسنية في حراسة الحديث الشريف من وضع الوضاعين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ومواكبة للتطور الإعلامي وتنوع وسائل الاتصال في هذا العصر، وما رافق ذلك من اختلاط المرويات صحيحها بسقيمها والتباس السنة بغيرها، أعطى -نصره الله – انطلاقة الدروس الحديثية بشقيها البياني والتفاعلي التي تبثها القناة السادسة وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم تصحيحا وتقويما لما ينتشر من أحاديث على ألسنة الناس.
وقد أسهم هذا البرنامج في إغناء المشهد الديني الإعلامي وإثرائه وحقق نتائج مباركة في التوعية بمكانة الحديث الشريف والتمييز بين ما صح منه وما لم يصح.
وصف هذا البرنامج وذكر لجنته وحصيلته على شاشة قناة محمد السادس وإذاعة محمد السادس
يسهر على هذا البرنامج ثمانية أساتذة متخصصين في علم الحديث، يتابع عملهم ويشرف عليهم جناب الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى فضيلة الدكتور سيدي محمد يسف.
وقد قدموا (10) عشرة دروس تمهيدية، وهي توطئات ومداخل توضح فلسفة الدروس الحديثية وتبين الغاية منها، وتبرز القواعد المؤطرة لهذا المشروع المتميز. و(48 حلقة) ثمانية وأربعين حلقة من الدروس البيانية التوضيحية: مدتها 30 دقيقة لكل حلقة، تناول فيها السادة الأساتذة بالدرس والبيان أحاديث سيد الخلق، بينوا مدى صحتها، ودرسوا أسانيدها واستخرجوا فوائدها وفقهها، كما ميزوا الأحاديث التي لا تصح فوقفوا على أسباب ضعفها. و(124 حلقة) أربعة وعشرين ومائة حلقة من الدروس التفاعلية: للإجابة عن أسئلة المواطنين ومدتها 52 دقيقة في كل حلقة، حيث يتلقى البرنامج عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني أسئلة المواطنين واستفساراتهم المتعلقة بأحاديث رسول الله من حيث الصحة والضعف وإمكانية العمل، وقد تجاوز عدد الأحاديث التي تناولها الأساتذة بالدرس والتحليل ألف حديث.
ويشرف المجلس العلمي الأعلى على الشق العلمي في البرنامج، تؤازره وتشد عضده وتسنده وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال موقعها الإلكتروني وصفحتها على موقع التواصل الاجتماعي.
وتحظى هذه الدروس الحديثية بمتابعة الآلاف من المواطنين، وتحقق حلقاتها نسبة مشاهدة واستماع عالية.
أهمية إضافة سجل على الأنترنيت يزيد من تنبيه الناس إلى مسألة الحديث لاسيما الضعيف والموضوع
وهذه مكرمة أخرى من مكرمات مولانا أمير المؤمنين، ومنقبة أخرى من مناقبه في الذب عن سنة جده المصطفى، خصوصا وأن الأمر متعلق بهذه الوسيلة الواسعة الانتشار، والمتاحة للجميع كبارا وصغارا، شيبا وشبابا؛ لسهولة استخدامها، وإقبال الجميع عليها إقبالا منقطع النظير.
وإسهاما من العلماء في تنويع وسائل الدعوة إلى الله، وقياما بواجبهم في الدفاع عن سنة سيد الخلق وحبيب الحق، ومدا لجسور التواصل مع جميع فئات المجتمع، ينخرط العلماء وراء مولانا أمير المؤمنين في مشروعه العلمي لتنقية السنة النبوية الشريفة مما علق بها مما يشوه جمالها، بل ويفتح الباب على مصراعيه لمن في نفسه مرض ليشكك في الإسلام ويهمزه وينتقصه، خصوصا بعد أن ذاعت وانتشرت أحاديث لا صلة لها بالجناب النبوي.
ولعل أعظم خدمة تقدم اليوم للسنة النبوية المشرفة إنشاء منصة رقمية للتحذير من الأحاديث المكذوبة والمفتراة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستطيع من خلالها المسلم الوقوف على حقيقة الأحاديث، والتعرف على المزور منها مما ألحقه الكذابون والدجالون بحديث رسول الله. ولا يهتدي لمعرفتها إلا الجهابذة.
Commentaires